أصحاب الأخدود

قصة أصحاب الأخدود، هي من القصص القرآني الكريم التي وردت في سورة البروج، وفصلت بإسهاب من خلال الأحاديث النبوية الشريفة، التي بينت للمسلمين الدروس والعبر المستفادة من هذه القصة الحكيمة، التي تدلل على القدرات التي يمنحها الله، سبحانه وتعالى، بأمره ومشيئته لمن يشاء من الأشخاص الذين ينتقيهم لصلاح قلوبهم وتقواهم لله، عز وجل، وإيقانهم بأنه وحده، جل وعلا، القادر على أن يجعل لهم مخرجاً من الهموم والمشاكل والظلم.

أصحاب الأخدود قصة قرآنية توضح لنا الدوافع التي دفعت أحد الملوك الظالمين لأن يأمر جنوده بحفر أخدود عميقٍ وإشعال نيران عظيمة بداخله، فما هو هذا السبب؟

الراهب والساحر والغلام

منذ قرون خلت، كان هناك حاكم من الجبارين والطغاة في الأرض، بلغ به التكبر والغرور مبلغاً خطيراً حين دعا الناس إلى عبادته مدعياً الألوهية، وكان من أتباع هذا الملك الظالم ساحرٌ طاعنٌ في السن يستعين بسحره في أمور الدولة ولإحكام السيطرة على شعبه وكي يتكهن له بالمستقبل.

عندما شعر هذا الساحر بدنو أجله وبعدم قدرته على مواصلة العمل مع الملك، طلب منه أن يختار له غلاماً نبيهاً كي يعلمه مهارات السحر وأسرار النجوم، كي يستعين به الملك مستقبلاً، فوافق الملك ونادى في البلاد لاستقطاب الراغبين من الفتيان في تعلم السحر ومرافقة الملك لاحقاً، ووقع اختيارهم بعد اختبارات عدة لقياس مدى ذكائهم وسعة فهمهم، على أحد الغلمان الصالحين الذي أرسل للساحر كي يتعلم منه فنون السحر وخفاياه.

في أثناء ذهابه وإيابه من بيت الساحر لمح الغلام في الأفق بيتاً يعيش فيه أحد الرهبان الصالحين منعزلاً عن الناس، فذهب إليه ذات يومٍ وجالسه، فأعجب بكلامه وحكمته وبمنهجه الصحيح، وصار يجلس معه في كل مرةٍ يتوجه فيها إلى بيت الساحر، الذي بدأ يعاقبه بسبب تأخره في المجيء، كما كان أهل الغلام يعاقبونه عند عودته متأخراً بعد زيارة الساحر، فلما ثقل العقاب على الفتى، اشتكى للراهب الصالح فقال له: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فكان يقضي وقته مع الراهب ويتعذر لأهله بذلك العذر.

وفي أحد الأيام، وأثناء توجهه إلى الساحر، اعترض طريق الناس حيوانٌ عظيم، فقال الغلام في نفسه، اليوم سأعرف أيهما أفضل، الساحر أم الراهب، ثم أخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، ثم رمى بذلك الحجر على الحيوان فقتله، فتعجب الناس مما فعل الغلام، وظنوا أن ذلك سحراً من التعليم الذي يتلقاه على يد الساحر. وبعد مقتل الدابة مضى الناس في طريقهم، ومضى الغلام للراهب، وأخبره بما حدث. فقال له: يا بني، أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستُبتلى، فإذا ابتُليت فلا تدلّ عليّ.

معجزة شفاء المرضى

منَّ الله على الغلام بمعجزة القدرة على شفاء المرضى، ومداواة جميع الأمراض المستعصية بتوفيقٍ من الله، عز وجل، فسمع بقدرته أحد جلساء الملك، وكان قد فقد بصره، فجمع الكثير من الهدايا وذهب إلى الغلام يطلب منه أن يشفيه من داء العمى الذي ألم به قائلاً، هذه الهدايا لك إن تمكنت من شفائي، فقال له الغلام، أنا لا أشفي أحداً، فالله، تعالى، هو الشافي، فإن آمنت دعوت لك الله، عز وجل، كي يشفيك من مرضك، فآمن جليس الملك، ودعا له الغلام فشفاه الله، تعالى.

عندما عاد جليس الملك إلى مجلسه المعتاد بجوار الملك، سأله الملك قائلاً: من ردَّ إليك بصرك؟ فأجابه بثقة: ربي شفاني، فظن الملك أنه يقصده بهذا الكلام ففرح، ثم غضب غضباً شديداً عندما قال له الجليس أنه يقصد بكلامه  الله رب العالمين، وليس مدعي الألوهية، فسأله الملك غاضباً: أولك ربٌ غيري؟ فأجابه الجليس دون تردد: ربي وربك الله، فثار الملك، وأمر بتعذيبه، ولم يزل يُعذَّب حتى أخبرهم بأمر الغلام، وما كان من أمره، وطلب منه أن يؤمن ليردَّ الله عليه بصره.

الملك والغلام

أمر الملك بإحضار الغلام، ثم قال له: يا بني، لقد بلغت من السحر مبلغاً عظيماً، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل، فرد عليه الغلام: إني لا أشفي أحداً، لأن الشافي هو الله، فغضب الملك وأمر بتعذيبه، فعذّبوه عذاباً شديداً ليخبرهم عمن علَّمه وأرشده إلى عبادة الله، تعالى، فلم يزالوا به حتى شُقت عليه شدةُ العذاب، فأخبرهم عن الراهب، ودل على مكانه.

جاء الملك بالراهب، وطلب منه أن يكفرَ بالله، تعالى، ويرجع إلى عبادته، فأبى ذلك، فجيء بمنشار، ووضع على مفرق رأسه، ثم نُشِر، فوقع نصفين، ثم أحضر جليس الملك الذي آمن، فرد الله إليه بصره، وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فَفُعِلَ به كما فُعِلَ بالراهب، ثم جيء بالغلام، وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر الملك بأخذه إلى قمة جبل، وتخييره هناك، فإما أن يترك دينه أو أن يطرحوه من الأعلى.

معجزات جديدة

أخذ الجنود الغلام، وصعدوا به إلى قمة الجبل، فدعا ربه هناك قائلاً: اللهم اكفنيهم بما شئت. فاهتزّ الجبل وسقط الجنود، ورجع الغلام يمشي إلى الملك الذي سأله: أين من كان معك؟ أجاب: كفانيهم الله، تعالى، فأمر جنوده بحمله في سفينة، والذهاب به إلى عرض البحر، ثم تخييره هناك بالرجوع عن دينه أو إلقائه في الماء، ولما ذهبوا به، دعا الله قائلاً: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت بهم السفينة، وغرق كل من كان عليها ما عدا الغلام، الذي رجع إلى الملك، فسأله باستغراب: أين من كان معك؟ فأجابه: كفانيهم الله، ثم أكمل مخاطباً الملك: إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به، فقال الملك: وما هو؟!

فقال الغلام: الطريقة التي تستطيع بها قتلي هي أن تجمع الناس في مكانٍ واحد، وتصلبني على جذع شجرة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي، وتضعه في القوس، وتقول: «بسم الله ربّ الغلام»، ثم ترميني به، فإن فعلت ذلك قتلتني.

شعر الملك بالسعادة، لأنه عرف كيف سيقتل الغلام كي يتخلص منه، وينهي دعوته لتوحيد الله، تعالى، فأمر بجمع الناس، وقام بصلب الغلام أمامهم، ثم أخذ سهماً من كنانته، ووضعه في القوس فرماه، فلم يصبه، ثم أخذ سهماً ثانياً وقال: بسم الله ربّ الغلام، وأطلقه فأصاب الغلام وقتله، عندها عرف الناس صدق دين الغلام، وبُطلان ألوهية الملك، وأخذوا يصرخون: آمنا بربّ الغلام، بينما هرع أصحاب الملك إليه قائلين: أرأيت ما كنت تخشاه! لقد وقع، فقد آمن الناس برب الغلام.

حفر الأخدود

بعد تلك الحادثة أمر الملك بحفر شقٍ في الأرض، وإشعال نارٍ عظيمةٍ بداخله، ثم أمر جنوده بتخيير الناس، بين الرجوع عن الإيمان، وبين إلقاؤهم في النار، فأشعلوا ناراً عظيمة، وأخذ الملك يشرف بنفسه على إلقاء المؤمنين فيها، وكان الجنود يخيرون كل مؤمن بين القذف فيها، أو الرجوع عن الإيمان، ومن يرفض يُلقى في الأخدود، حتى جاء دور امرأة ومعها رضيعها، فخشيت على وليدها من أن يلقى معها في النار، فألهم الله الصبي فنطق وهو في المهد، وقال لها يا أمّاه اصبري فإنك على الحق، فقذفت بنفسها في النار، فمات أصحاب الأخدود حرقاً، في سبيل دينهم ورفضهم للكفر والضلال.