مملكة سبأ

وردت قصة مملكة سبأ في القرآن الكريم، وهي واحدة من القصص القرآنية العظيمة التي تهدف لمنح قارئها العظة والعبرة، وللتدبر في أمور الدنيا والآخرة، وللتفكير العقلاني الذي يقود صاحبه للإيمان بالمولى، عز وجل، ولمعرفة ما حل بالأمم القديمة عندما أنكرت وجود الإله الواحد الأحد، وانصرفت عن عبادته لعبادة آلهة من صنع خيالهم كعبادة الشمس أو الكواكب أو النار وغيرها، فوقع عليهم العذاب الشديد ليكونوا عبرة لغيرهم من الأمم.

تابعوا معنا الأسطر التالية كي تتعرفوا إلى قصة واحدة من أعظم ممالك العصور القديمة، التي أنعم الله، تعالى، على أهلها بالخيرات والنعم ثم ساق لهم عذاباً عظيماً عقاباً على كفرهم وإنكارهم لخالقهم، عز وجل.

يعود نسب سبأ إلى عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان الذي يقال أنه كان أول من سبى من العرب فسمي سبأ لذلك، كما كان يدعى: الرائش لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه، ويقال أيضاً أنه أول من تُوِّج على عرش من الملوك، وأنه كان مسلماً، كما روت بعض الأحاديث الصحيحة عن نبينا الكريم محمدٌ، صل الله عليه وسلم، حيث قال عندما سئل عن سبأ أهو رجل أم امرأة أم أرض، بأنه رجل وُلِد له عشرة أبناء، سكن اليمن 6 أبناء منهم، بينما سكن الأربعة الباقين في بلاد الشام.

اشتهرت مملكة سبأ بالقوة والبأس الشديد، كما اشتهرت بالثراء وسعة العيش الذي تمتع به أبناءها، نتيجة لمتاجرتهم بالعطور والدرر والبخور واللبان، كما عرفت بالنعيم الذي عاش فيه أهلها لاتساع أرزاقهم وخصوبة أراضيهم وطيب زرعهم ووفرة مياههم، حيث اشتهرت أراضيهم بكثرة البساتين عن اليمين والشمال التي وصفها الله، تعالى، في كتابه الكريم بأنهما جنتان عن اليمين والشمال، وقد روى المفسرون هنا أن الجنتان هنا يقصد بهما مجموعات متجاورة من البساتين الكثيفة الأشجار تواجدت على جانبي الوادي الذي يقسم أرض مملكة سبأ إلى نصفين، ونظراً لكثافة تلك الأشجار الباسقة وتشابكها فقد كانت تظهر للعيان كالجنان الخضراء.

سبأ أرض الماء والجمال

قال المفسرون عن مملكة سبأ: بأنها أرضٌ كريمة التربة، حسنة الهواء، خالية من الهوام، جميلة، مباركة، معتدلة الطقس ليست بالحارة ولا الباردة، طيبة المناخ فهي ليست جافة ولا رطبة، ليس فيها ذباب، ولا بعوض، ولا براغيث؛ لاعتدال هوائها، وصحة مزاجها، وعناية الله -تعالى- بأهلها، امتلكت سبأ أخصب الأراضي وأطيبها ثمراً، فنعم أهلها بالرزق الرغيد، حيث كانت من أخصب أراضي اليمن وأكثرها ثراءً، وأعذبها ماءً وأكثرها جناناً، يسير الراكب من أولها إلى آخرها لا تواجهه الشمس، ولا يفارق ظلها؛ لاستتار الأرض بتلك الأشجار، وإحاطتها بها، كما كانت المرأة إذا دخلت بين بساتينها حاملة سلة على رأسها تمتلئ تلك السلة بالثمار الناضجة والشهية المختلفة الأشكال والألوان والنكهات، التي تتساقط داخلها دون عناء ولا كلفة، لوفرة الأشجار وتنوع الثمار من فاكهة وخضراوات.

كان الماء يتدفق على أرض سبأ وفيراً بين جبلين يفيض بالخيرات والنعم على جانبي الوادي، كما كانت تأتيهم السيول والأمطار، فعمد ملوكهم بإصدار الأوامر لعمالهم المهرة وكانوا أهل خبرة في إنشاء السدود، لبناء سدٍ عظيم ومحكم البناء هو سد مأرب، الذي ازدانت ببنائه المملكة، وكثرت بوجوده النعم، وفاضت الخيرات على أهل مملكة سبأ من كل جانب.

سيل العرم.. العقوبة الإلهية لأهل سبأ

أرسل الله، تعالى، لأبناء سبأ العديد من الرسل الذين دعوهم للاستمتاع بما رزقهم الله، مع توحيده وعبادته كتعبير عن شكرهم وامتنانهم لتلك النعم، فاستجابوا لهم مدة من الزمان، ثم حادوا عما أمروا به وكفروا بالله الواحد الأحد وتحولوا لعبادة الشمس والكواكب، وأصابتهم الخيلاء بسدهم العظيم ومهارتهم في بنائه وبالنعم التي تحيط بهم من كل جانب، لدرجة أن ملوا منها وأصبحوا يدعون الله بأن تصيبهم الشرور من باب التغيير، نظراً لمللهم من  الحياة الهانئة والنعم التي يرفلون فيها، فباتوا يسألون الله أن يباعد بينهم وبين أسفارهم وأن يقل الخير في طريقهم كي يستشعروا روح المغامرة أثناء السفر، وهو أمر منكر ويدل على البطر وقلة الفكر والعزوف عن الشكر الواجب لخالقهم، حيث انحرفت فطرتهم السليمة واستبدلوا الخير بالشر والطيب بالقبيح، ومن ثم أعرضوا عن عبادة الله، تعالى، والتوحيد به وشكر نعمه عليهم،  وانصرفوا لعبادة الشمس والكواكب.

كعقابٍ لهم أرسل الله، تعالى، على أهل سبأ في البداية مجموعة كبيرة من الجرذان التي نقبت أسس سدهم المنيع وأضعفتها،  ثم أرسل عليهم أمطاراً شديدة القوة شكلت سيل العرم، والسيل العرم هو السيل الجارف، الشديد، الصعب، الشرس، كثير المياه، متناهي الأذى، الذي لا طاقة لأحد بدفعه ولا لسد بتحمله، وهكذا انهارت هذه المعجزة الهندسية التي أصابتهم بالتيه والخيلاء لتغرق البلاد والعباد بمياه لا طاقة لهم بدفعها، فاجتاحت الأراضي وأتلفت البساتين والمحاصيل، ودمرت المنازل والبيوت، فمات من مات منهم ورحل من رحل إلى بلاد بعيدة، أما من بقوا في مملكتهم فقد باتوا يتقلبون في العذاب، إذ انقلبت خيرات الأشجار التي نعموا بها لسنوات طويلة من خضراوات وفواكه وورود ورياحين إلى "أكلٍ خمط" وهو الثمر المر البشع كريه الرائحة الذي لا يؤكل، والأشجار التي لا ثمار لها فضلاً عن  القليل من أشجار السدر، فبدل الله بسبب أعمالهم أحسن الشجر وأطيبه ثمراً بأسوأ الشجر وأسوأه طعماً فحلت هذه الثمار المرة كريهة الطعم محل ثمارهم الشهية الطيبة، وحلت الأمراض والأسقام في أبدانهم بدل نعيم الصحة التي كانوا يرفلون بها وأبدل قوتهم وبأسهم ضعفاً ومرضاً وسقماً، واستبدل أمنهم وعزهم بالخوف والجوع والفرقة، وبعد أن كانوا يسافرون أياماً وليالٍ دون أن يحملو زاداً ولا ماء لقرب القرى من بعضها ووفرة الخيرات على طول الطريق، تحولت جنانهم لصحراء قاحلة لا ينمو فيها زرع ولا يجدون فيها ماء ولا طعاماً، فكان الماء سبباً لنعيمهم وأداة لعذابهم في الوقت نفسه.