المسحــــراتـي

"اصحى يا نايم وحد الدايم."
"يا نايم الليل قوم أتسحر، قوم يا نايم قوم، قومك أحسن من نومك."
"اصحى يا نايم وحد الدايم، ربي قدرنا على الصيام، وحفظ إيماننا بين القوم."

على مدى العصور لعب المسحراتي أو "أبو طبيلة" في اللهجة الإماراتية، واحداً من أهم الأدوار خلال الشهر الكريم، وهي إيقاظ النائمين وتحفيزهم لتناول وجبة السحور، استعداداً للصيام، يحبه الأطفال ويتحلقون حوله، ويحترمه الكبار ويقدرون دوره الكبير الذي يلعبه بواسطة صوته الرخيم الذي ينشد به أجمل القصائد والأناشيد، التي تمنح الشهر الفضيل المزيد من الطقوس الروحانية المحببة للقلوب لتميزه عن غيره من الشهور، سنتعرف معاً هنا على قصة نشوء مهنة المسحراتي التي ارتبطت بليالي رمضان التي ليست ككل الليالي.

هي عبارات يعرفها الآباء والأمهات على امتداد الوطن العربي، ويحفظونها عن ظهر قلب، كيف لا وهي رفيقة طفولتهم في ليالي رمضان الدافئة، حين كانوا يستيقظون على صوته العذب وهو يشدو بأجمل الكلمات ذات اللحن الساحر، كي يدعوهم للنهوض من النوم وتناول الطعام استعداداً للصيام، إنه المسحراتي الشخصية الأشهر في رمضان أيام زمان، فلنتعرف على قصته معاً.

المسحراتي الأول
تؤكد الوثائق أن بلال بن رباح هو أول من قام بتنبيه الناس للقيام من النوم وتناول وجبة السحور، إذ كان يمر على البيوت ويطرق أبوابها لإيقاظ النائمين، لكن عندما لاحظ نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، بأن الناس ترتبك أحياناً  في تحديد وقت تناول الطعام أو الامتناع عنه، أمر بلال بن رباح بأن يؤذن لأذان المغرب بصوته الرخيم ليعرف الناس بأن موعد الإفطار قد حان، بينما أمر، صلى الله عليه وسلم، عبدالله بن مكتوم بأن يرفع أذان الفجر كي يمتنع الناس عن الطعام والشراب. ومن ثم تطورت فكرة المسحراتي على مدى العصور الإسلامية المتتالية، وتحولت إلى مهنة يحترفها الأشخاص ممن يحفظون الأناشيد والأشعار ويمتلكون الصوت العذب والمعرفة الجيدة بأفراد الحي، والبداية كانت في مصر الفاطمية.

العهد الفاطمي
بدأت مهمة المسحراتي في مصر الفاطمية على يد الحاكم بأمر الله الفاطمي، الذي أصدر أوامره بأن ينام الناس مبكراً بعد صلاة التراويح كي يتمكنوا من الاستيقاظ للسحور، كما كان يطالب جنوده بإيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور عبر طرق أبواب منازلهم. ويعد عتبة بن إسحق، بشكلٍ فعلي، أول من عمل كمسحراتي في أرض مصر، حيث كان يخرج بنفسه لإيقاظ الأهالي في مدينة الفسطاط، مردداً حديث النبي محمد، عليه الصلاة والسلام:"يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة."

العهد العباسي
بدأت مهنة المسحراتي تتخذ شكلها الحالي وتتحول إلى مهنة متخصصة في بغداد في عهد الدولة العباسية، حيث ابتكر الأهالي الفن الحجازي، وفن القومة، وكلاهما من فنون الأدب الشعبي.  ومع تمدد المدن وزيادة عدد سكانها، بدأ المسحراتي باللجوء لاستخدام بعض الآلات الموسيقية لتنبيه أكبر عددٍ ممكن من الناس. وفي مصر ظهر "ابن نقظة" وهو أول مسحراتي محترف، واقتصرت مهمته على إيقاظ الملك الناصر، ولقد ورث عنه ابنه هذه المهنة. وفي هذا العصر  ارتبطت مهنة المسحراتي أكثر فأكثر بالآلات الموسيقية وخاصة في بغداد، أما في مصر فقد ارتبطت مهنة المسحراتي بفن القصص والحكايات الشعبية خاصة تلك التي تحمل العديد من الدلالات والحكم في الثقافة الشعبية لأهل مصر.

العصر الحديث
استمرت مهنة المسحراتي بنفس درجة الأهمية، على مر العصور الإسلامية المختلفة وانتشرت على امتداد الوطن العربي، الذي اجتمع على أهمية المهمة التي يقوم بها المسحراتي، بينما اختلفوا في طريقة القيام بها، حيث أدخل كل شعب على المهنة بعض التعديلات كالأناشيد والأهازيج والحكايات، واستخدام بعض الأدوات كالدف والطبلة التي كانت الأداة الأشهر للمسحراتي في الكثير من الدول العربية ومنها مصر والإمارات التي كان يسمى فيها المسحراتي بــ "أبو طبيلة" في إشارة للطبلة الصغيرة التي يقرعها لإيقاظ الناس وتسمى "البازة"، كما اختلفت الأزياء التي يرتديها المسحراتي من دولة لأخرى وإن كانت تدور في أغلب الأحيان حول الملابس التراثية والشعبية للدولة التي يتبع لها المسحراتي.

لاحقاً بدأ كبار الكتاب والشعراء بوضع لمساتهم الأدبية على مهنة المسحراتي، وذلك بابتكار أشعارٍ ومقولات وأهازيج خاصة للمسحراتية، ولعل أشهر هذه العبارات تلك التي كتبها الشاعر المصري فؤاد حداد والتي لحنها الموسيقار الشهير سيد مكاوي عام 1964 ويقول مطلعها" وكل حتة من بلدي حتة من كبدي.. حتة من موال.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال."
كما بدأ الأشخاص يحترفون المهنة ويتوارثونها أباً عن جد، بل ويتوارثون العبارات التي يستخدمونها لإيقاظ النائمين، يقول أحدهم: "تعلمت مهنة المسحراتي من والدي، حيث كنت أطوف معه على المنازل لإيقاظ الناس، فتعلقت بها نظراً للتقدير الذي كنت ألمحه في عيونهم، واحتفائهم به مع نهاية الشهر الكريم، بسبب الجهد الذي كان يبذله ولطريقته المميزة في تنبيه النائمين لاقتراب موعد أذان الفجر، حيث كان يلف الحي نفسه أربع مرات وفي كل مرة يستخدم عبارة خاصة، إذ كان يقول في اللفة الأولى: "أيها النوام قوموا للفلاح، واذكروا الله الذي أجرى الرياح، إن جيش الليل قد ولى وراح، وتدانى عسكر الصبح ولاح، اشربوا عجلى فقد جاء الصباح." أما في اللفة الثانية فينشد: "تسحروا رضي الله عنكم؛ كلوا غفر الله لكم؛ كلوا من الطيبات واعملوا الصالحات." أما في الثالثة فيهتف قائلاً:  "يا مدبر الليالي والأيام؛ يا خالق النور والظلام؛ يا ملجأ الأنام ذا الجود والإكرام." أما في اللفة الرابعة فينادي: "كلوا واشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح؛ واذكروا الله في القعود والقيام وارغبوا إليه تعالى بالدعاء والثناء." لكن نظراً لتوسع الشوارع وتفرعاتها فأنا أكتفي اليوم بإيقاظ المتسحرين بهذه العبارة: "يا عباد الله وحدوا الله”، و”قوموا على سحوركم خلي النبي يزوركم."

مستجدات عصرية ومسحراتي شاب رمز للتسامح!
رغم الإجماع على أن مهنة المسحراتي من المهن التي توشك على الانقراض، إلا أن تمسك المسلمين بالكثير من الطقوس الرمضانية التي توارثوها عن الآباء والأجداد، هو ما يحول دون حدوث ذلك، وخاصة في الحارات القديمة والمناطق الشعبية في بعض الدول العربية، التي لا تزال تحتفي بمهنة المسحراتية وتقدر القائمين عليها، رافضة أن تستبدلهم بالأدوات التكنلوجية الحديثة وأساليب الحياة العصرية التي تهدد وجودهم. بل ظهر حرص البعض ممن لم تألفهم المهنة على إبقاء جذوة المسحراتي موقدة، عبر التطوع لأداء هذه المهمة دون مقابل أو أجر، أو عبر عمل المرأة كمسحراتية للحصول على دخل إضافي تعيل به أسرتها.
لكن من أجمل الأمور التي طرأت على مهنة المسحراتي، وخاصةً في لبنان والتي تدل على الرغبة في إظهار التسامح والتفاعل مع الآخرين في مناسباتهم الدينية، يأتي ظهور بعض المسحرين، أو الطبالين كما يطلق عليهم في اللهجة الشعبية،  من الأخوة المسيحيين، الذين يحرصون على إيقاظ المسلمين وتنبيههم لموعد السحور، ودون أي مقابل فيما عدا الرغبة في مشاركة إخوانهم المسلمين مشاعرهم وفرحتهم بحلول الشهر الفضيل، والأجمل ألا يلقى المسحراتي الشاب ميشيل أيوب، الذي تطوع لأداء هذه المهمة في مدينة عكا اللبنانية، إلا الترحيب من أبناء ديانته ومن مسلمي الحي الذي يقطن فيه وهو يجوب شوارع المدينة قبل أذان الفجر لإيقاظ المتسحرين منذ تسعة أعوام ولا يزال مستمراً في أداء هذه المهمة النبيلة دون أي مقابل.

أما في السودان فيقوم المسحراتي ومعه طفلٌ صغيرٌ يحمل فانوساً ودفتراً، بطرق أبواب الحي وهو ينادي سكان الحي بأسمائهم منادياً: "اصحوا يا ناس يا حلوين.. اصحوا وأسحروا.. وقولوا نوينا نصوم رمضان.. اصحى يا نايم وحد الدايم". فيما تبدأ مراسم إيقاظ الناس للسحور في الصومال على يد مجموعة من الشباب الذين يجوبون الشوارع وهم يهتفون: "سحور..سحور..سحور".وفي السعودية يلف المسحراتي الأحياء والشوارع القديمة مردداً:"اصحى يا نايم؛ وحد الدايم؛ ربي قَدِّرنا على الصيام، واحفظ إيماننا بين القوم. "أما في دولة الإمارات، فقد استعمل المسحراتي قديماً طبلة صغيرة تسمى "البازة"، لينقر عليها أثناء طوافه حول بيوت الفريج، قبل أذان الفجر بوقتٍ كافٍ، ليوقظ ساكنيها كي يتمكنوا من صوم اليوم التالي، وكان يهتف قائلا:" يا نايم الليل قوم اتسحر، قوم يا نايم قوم، قومك أحسن من نومك."بينما ينادي المسحراتي في سوريا وفلسطين على أهالي الحي بأسمائهم قائلا:" يا نايم وحد الدايم؛ يا نايم وحِّد الله؛ قوم يا أبو محمد وحِّد الله؛ قوم يا أبو حامد.. يا أبو صياح."